آراء وتحليلات

وحدة الساحات في الميدان والمفاوضات: جبهة لبنان في قلب النقاش حول غزّة
04/05/2024

وحدة الساحات في الميدان والمفاوضات: جبهة لبنان في قلب النقاش حول غزّة

فرض حزب الله منذ الثامن من أكتوبر 2023 حرب استنزاف كبيرة على كيان العدوّ بهدف إشغاله وتشتيت قدراته وإبعاد جزء معتبر من قوته العسكرية عن قطاع غزّة لتخفيف الضغط على الشعب والمقاومة الفلسطينيين. 

التقييمات السائدة لدى قيادة العدوّ والتي تستشف من مجمل التقارير والاستنتاجات التي تنشر عن فعالية الجبهة اللبنانية باتت تتجاوز وظيفتي الإشغال والتشتيت إلى المساهمة الفعالة في زيادة المكاسب الاستراتيجية لعملية طوفان الأقصى وتضييق الخناق على "إسرائيل" في مأزقها الوجودي الذي دخلت إليه بدءًا من السابع من أكتوبر، وتم رسم معالمه مع الترجمة العملية لمفهوم "وحدة الساحات" التي بلورها محور المقاومة مع جبهات المساندة لغزّة، وصولًا إلى عملية "الوعد الصادق" التي ردت فيها الجمهورية الإسلامية على العدوان "الإسرائيلي" على القنصلية الإيرانية في دمشق.

بين تاريخي ٧ أكتوبر و١٤ أبريل تثبتت حقيقة جوهرية أن "إسرائيل" لا يمكن أن تستمر من دون حماية أميركية غربية مباشرة. تحت هذا السقف يمكن قراءة وتحديد فعالية كلّ جبهة ومستوى ونوعية مساهمتها ليس فقط في دعم وإسناد المقاومة الفلسطينية في غزّة، بل في تعميق المأزق الوجودي "الإسرائيلي" واختبار قدرة هذا الكيان على البقاء في بيئة شديدة وسريعة التغير بعيدًا عن معادلات الصراع السابقة. فالمسألة ليست حديثًا عن قواعد اشتباك جديدة يمكن أن تضبط الصراع إلى أمد معين، بل تجاوزتها الوقائع إلى أسئلة حول القدرة على البقاء الصهيوني والاستمرار في ظلّ  جبهات متعددة تطوق "إسرائيل" من عدة جهات بحيث ينطبق مفهوم "الطوق" بالنار عمليًّا على المرحلة الراهنة.

هنا تتموضع الجبهة اللبنانية في المرتبة الثانية بعد جبهة غزّة في عملية إثخان العدوّ وإضعافه وزيادة منسوب قلقه الوجودي ربطًا بتراكمات النتائج الفعلية للعمليات اليومية للمقاومة الإسلامية. 

ولعل أولى هذه النتائج هو تقييد خيارات العدوّ في توسيع رقعة الاشتباك والذهاب نحو مواجهة أوسع رغم تسخير نحو ثلث القوّة العسكرية "الإسرائيلية" ونشرها في الجبهة الشمالية. وبالتالي "إسرائيل" ورغم خطابها الإعلامي التصعيدي التهويلي بتوسيع الحرب إلى العمق اللبناني ظهرت كالمنضبط بشدة تهيبًا من قدرات حزب الله المعلومة وغير المعلومة. وصنف ذلك على أنه درجة ضعف ليست بسيطة في ظلّ  العدوان على غزّة. 

الإشكالية الثانية تتعلق بتبعات النزوح واللجوء "الإسرائيلي" هربًا من مستوطنات الشمال إلى الوسط وأماكن أكثر أمنًا. فقد تحول جزء مهم من الشمال إلى منطقة خالية تعطلت فيها قطاعات الزراعة والصناعة والسياحة ورفعت بشكل كبير الكلفة الاقتصادية والمالية والنفسية لهذه الجبهة لتنضم إلى مجموع الأكلاف على جبهة غزّة وجبهة الضفّة فضلًا عن أكلاف جبهتي اليمن والعراق.

نقطة جوهرية أخرى استجدت في جبهة الشمال أخذت كيان العدوّ إلى مربع آخر لم يختبره من قبل وهو ما يسمونه "معاناة النزوح واللجوء" بما تتضمنه من مضاعفات نفسية خطيرة تلامس أصل فكرة الاستيطان والبقاء في الشمال في ظلّ  احتمال تكرار حزب الله لـ ٧ أكتوبر لبناني جديد يمكن أن يستفيق عليه الصهاينة في أي وقت، خصوصًا مع التوثب الذي أحدثه حزب الله في أدائه القتالي بالتحول من الدفاع إلى الهجوم بدءًا من ٨ أكتوبر. 

ثم إن الأداء القتالي لحزب الله وقدرته على التملص من الاستحكام الجوي "الإسرائيلي"  المتعدد الطبقات وقدرة المجاهدين على تسديد الضربات المؤلمة والقاتلة في مناطق انتشار قوات العدوّ الجديدة في العمق بعيدًا عن النقاط الحدودية المعروفة مع لبنان، وتفعيل جزء من قدراته رسم في ذهن قيادات العدوّ العسكرية وأجهزته الاستخبارية - التي تتابع بدقة فحص وتحليل مجريات الجبهة اللبنانية - المدى الذي يمكن أن يذهب إليه حزب الله في إسناد الشعب الفلسطيني ومقاومته في غزّة، خصوصًا مع تجاوز الحزب لكل عمليات التهويل والضغوط الأميركية والأوروبية والإقليمية وقيامه بما يعتقد أنه يجب أن يقوم به، بحيث يحقق الهدف المتوخى من هذا التدخل العسكري. وبالتالي فإن الخسائر المتعددة المجالات التي تكبدها الكيان الصهيوني جراء تفعيل جبهة لبنان أقامت رابطًا موضوعيًّا مع جبهة غزّة بحيث يستلزم وقف إحداهما وقف الثانية، خلافًا لما يحاول بعض قادة الكيان إيهام جمهورهم به، لتكون حاضرة في قلب النقاش الدولي بشأن وقف العدوان على قطاع غزّة. 

 ولعل ما كتبه "ناحوم برنياع" في صحيفة ""يديعوت أحرونوت"" (27 نيسان 2024) من أن "الوضع في حدود لبنان هو أحد الأسباب التي تحرك الجيش "الإسرائيلي" لتأييد صفقة المخطوفين: الصفقة ستسمح لاتفاق في الشمال وعودة السكان. هذا موضوع يقلق الجيش جدًّا. لشدّة المفاجأة، هو لا يقلق الحكومة.."، يعبر عن حقيقة ترابط المعادلات التفاوضية كما ترابطت المعادلات الميدانية. 

طبعًا هناك محللون إسرائيليون كثر - وغير إسرائيليين - يشيرون ضمنًا إلى حجم الفجوة بين تقييمات المستويين السياسي والعسكري في كيان العدو. المستوى العسكري يستطيع أكثر من غيره وضع الاستنتاجات الاستراتيجية والتحولات التي حصلت في إدارة المعركة على مستوى جبهات محور المقاومة والتي صبت جميعها في محاصرة قدرة العدوّ على التفاوض مع حماس وتراجع قدرته على تحقيق "المكاسب" التي يجهد لتحصيلها، وهو ما خدم في النهاية المقاوم الفلسطيني الذي بقي صامدًا متكئًا في الأساس على قوة نارية وعمليات مؤذية لم يستطع العدوان إخمادها، وصمود شعبي فلسطيني أسطوري غير مسبوق للغزاويين. 

عندما يصبح النازحون واللاجئون الصهاينة من المستوطنات والمناطق الشمالية ورقة ضغط كبيرة على قيادة العدوّ مع كلّ آثارها الاقتصادية والنفسية والأمنية يصبح الطموح "الإسرائيلي" البحث عن حلول لإعادتهم في سياق أي صيغة تهدئة مع غزّة وإعادة أسراه، بعدما كانت سابقًا صيغ التهدئة والاتفاقات ترتكز حول معادلات الردع وتوزان الردع وتفوق الردع "الإسرائيلي" وغيرها من المفردات المرتبطة بالأبعاد العسكرية والسياسية لأي معركة. وبالتأكيد فإن الخوف من الإخفاق والفشل والهزيمة في مواجهة حزب الله في حال توسيع رقعة المواجهة هو واحد من الأكلاف الباهظة التي لم يعد يستطيع جيش العدوّ أن يتحملها بعد كارثة 7 أكتوبر وبعد 7 أشهر من الفشل في تحقيق أهداف العدوان على غزّة رغم القوّة النارية الصهيونية التي تجاوزت تعريف "الدمار الشامل" بأسلحة تقليدية لتشبه الدمار بأسلحة غير تقليدية، ومع ذلك فشل هذا الجيش في إعادة الأسرى الصهاينة بالقوّة وفي القضاء على حماس ولا يزال ينتظر رأي الأخيرة وقرارها بشأن أي اتفاق يقدمه الوسطاء، فكيف سيكون حال المؤسسة العسكرية الصهيونية وهي تجهل - وتعرف في الوقت نفسه - ماذا ينتظرها من خلف الحدود اللبنانية، وهي التي لم تخرج بعد من صدمة "الوعد الصادق الإيراني"؟.

وبذلك فإن جبهة المساندة اللبنانية ارتقت وأصبحت بفعل الميدان عامل ضغط إضافي على الكيان المؤقت للبحث عن مخرج للمأزق الذي وجد نفسه فيه في رمال غزّة أما مأزقهم في الشمال ومعركتهم مع حزب الله فقد دخلا في طور جديد له حسابات مختلفة في ضوء التجربة الراهنة.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات